المادة    
  1. الحكم على رواية: (كنت قلبه الذي يعقل به...)

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقوله: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، وهذا كما في الرواية التي ذكرها الشيخ هنا، وهي رواية الإمام البخاري رحمه الله، فذكر فيها السمع، والبصر، واليد، والرجل، وفي بعض الروايات قال: ( وقلبه.. ) يعني: وكنت قلبه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق بها، وهذا موجود في رواية عبد الواحد بن ميمون ، عن عروة ، عن عائشة ، وقد ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله فقال: إن الطرق كلها ضعيفة؛ فقد قال الإمام البخاري في عبد الواحد هذا: منكر الحديث، والحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في الفتح هذه الرواية، لكن لم يشر إلى درجتها؛ ولعله اكتفى بأنه معلوم أن جميع هذه الطرق فيها مقال.
  2. معنى قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به...)

    ويكفي ما ثبت في البخاري من قوله: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ).
    وقد اختلف الناس في هذه الجملة قديماً وحديثاً، في فهم هذه الجملة، فمنهم من خرج عن حد الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله، ومنهم من ضل وأخطأ، ومنهم من وافق الحق وأصابه في فهم هذه الجملة، فهي من جملة العبارات التي يقع فيها الخلاف بين سائر الفرق والطوائف كـالصوفية ، و المعتزلة و القدرية وأشباههم، كما نجد ذلك الاختلاف في فهم بعض الأحاديث ولا سيما في أحاديث الصفات، وأحاديث القدر.
    فهذه الجملة بالذات: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره ) ... إلخ نجد فيها اختلافاً وتبايناً شديداً بين شراح الحديث في فهم معناها؛ وذلك بحسب اتجاهاتهم العقدية، وانتمائهم الفرقي، وسنذكر هنا ما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله هنا، واختاره، ثم نعرج على الأقوال الأخرى من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح. ‏
  3. الابتداء بالفرائض قبل النوافل

    قول ابن رجب رحمه الله تعالى: (المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنواقل قرب إليه).
    فهنا قال ابن رجب: (بالفرائض، ثم بالنوافل) مع أن الحديث يقول: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) ولم يذكر الفرائض، فنقول: هذا يجب أن يكون معلوماً، فالنوافل لا تصح ولا تقبل إلا بعد أداء الفرائض؛ ولذا قال بعض العلماء: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، فاشتغال الإنسان الأساسي ويكون بالفرائض، فهي التي قال الله فيها كما في هذا الحديث: ( وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه )، فأي عبادة من العبادات التي يشتغل بها الإنسان عن الفرائض لو أنها أحب إلى الله عز وجل؛ لجعلها الله فرائض، لكن من حكمة الله أن جعل العباد على نوعين، وكل نوع فيه درجات متفاوتة كما ذكرنا: المقربون، والسابقون، وأصحاب اليمين، فلا يكون الإنسان من المقربين إلا إذا أتى بعمل أصحاب اليمين، وزاد عليه.
    فلذلك لا بد لمن يأتي بالنوافل أن يكون قد أتى بالفرائض، فمثلاً: في الصلاة أول ما يجب الاهتمام به هو الصلاة المفروضة؛ بأن يؤديها الإنسان كاملة الأركان، والواجبات، والمستحبات، أن يؤديها ما استطاع إلى ذلك في أوقاتها، وبشرائطها المعروفة، هذا هو الأصل، فمن حافظ عليها فقد جاء بالأساس والأصل؛ مع ما يدخل فيها من النوافل في شروطها، وفي مواقيتها، وفي هيئاتها، وفي أذكارها، حتى يكمل الصلاة التي هي الفريضة.
    ثم بعد ذلك يهتم بأداء النوافل، أي: يهتم بالفرض داخل الفرض، وما يلحقه أيضاً من نوافل، ثم يهتم بالنوافل خارج الفريضة، فيؤدي السنن الرواتب والوتر، ثم بعد ذلك ما هو أقل منها في السنية كالتطوع غير المحدود في الليل، أو في النهار.
    إذاً؛ لا بد أن يعلم الإنسان المؤمن العابد المتقرب إلى الله عز وجل أن الله تبارك وتعالى شرع لنا الفرائض، وهي أهم شيء، ثم ما كان آكد من السنن، ثم ما كان أقل، ثم ما كان تطوعاً مباحاً.
    وكذلك في أموالنا يجب علينا أن نتحرى وأن نجتهد في أداء الزكاة المفروضة، والواجبات الأخرى، فهناك واجبات غير الزكاة: كالنفقة على الوالدين، أو على من يجب عليه النفقة عليه، أو الجار إذا كان فقيراً معدماً لا يملك طعام ليلته مثلاً، أو الضيف الذي لا يملك شيئاً، وما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة على تفصيل واختلاف فيها، فنبدأ بها، ثم بعد ذلك ما هو مؤكد السنية والاستحباب، ثم ينتهي الأمر ما كان تطوعاً.
    ولو أن أحداً أنفق من التطوع في سبيل الله وأخل بأداء الفريضة التي هي الزكاة، ولم يراعها؛ لكان مثل الذي يؤدي التطوع من الصلوات، ويترك الفرائض الواجبة.
    إذاً فالتقرب إلى الله تعالى إنما يكون بالنوافل بعد الفرائض، والنوافل تفيد الإنسان في كونها تجبر ما ينقص من الفرائض، فالفرائض هي الأساس، فإن زاد شيء فهو خير، والنافلة في لغة العرب: هي الزيادة، ولا يكون الشيء زائداً إلا على الواجب، أو على القدر المطلوب.
  4. فائدة التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض

    يقول: (فإذا فعل العبد ذلك) يعني: إذا تقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل بعد الفرائض (قرب إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة، كأنه يراه).
    وعبادة المؤمن في حال الإيمان هي عبادة من يخاف الله، ويتقيه، ويرجو ثوابه، ويخشى عقابه على الغيب، فإذا اجتهد حتى أصبح يعبد الله وكأنه يراه في كل لحظة، وفي كل موقف، وفي كل عمل، فهذه درجة الإحسان.
    وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، فتستشعر أن الله يراك، وتعبده وكأنك تراه أيضاً، وهذه درجة عالية، فإن لم تكن تراه فإنه -تبارك وتعالى- يراك، فليس كل من يعبد الله، وليس كل المؤمنين يستشعر هذه الرقابة، وهذه الرؤية دائماً، فهذه الدرجة امتن الله تعالى واختص بها طائفة من عبادة المؤمنين، فيجب على كل مؤمن أن يجتهد؛ ليكون كذلك بحسب الاستطاعة؛ ولو بمحبة القلب، وبتمنيه أن يكون كذلك، وأن يدعو الله أن يوفقه كي يكون كذلك؛ حتى يعبد الله تعالى -كما قال- على الحضور والمراقبة.
    فإذا عمل عملاً، أو نطق نطقاً فإنه يستشعر أنه يرى الله عز وجل وكأنه يقول له: يا عبدي! ليس الأمر كذلك؛ فهذا حرام، وهنا يأتي الورع.
    والإحسان اسم عام، ولهذا قال العلماء إن ما يسميه الصوفية في المقامات بمقام الزهد، ومقام الورع، ومقام التوكل، ومقام الخشية والإنابة؛ كل هذه المقامات تجمعها مرتبة ودرجة الإحسان وهي الكلمة واللفظة الشرعية، أي: أنه أحسن عمله، وأجاده، وأحسن صلته بالله عز وجل، وأحسن المراقبة لله عز وجل، فأصبح يستشعر في كل أمر رؤية الله تعالى له، فإذا حصل هذا فإنه يمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة، وأما نحن ومن كان على مثل حالتنا -نسأل الله أن يصلح أحوالنا- فإننا نسمع ونقرأ هذه العبارات ولم نذق حقيقتها، لكن من جرب ذلك، واجتهد حتى يكون كأولئك؛ فإنه يدرك معنى هذا الكلام.
    وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يرون بعين البصيرة كل هذه الأمور، ويحسون بهذه الأشياء، ويشعرون بذلك، ولذلك لم يكونوا يرون ألماً أشد عليهم من أن ينقطع الإنسان أو يغفل عن ذكر الله، أو عما يجب عليه، أو أن يرتكب ذنباً فتسود صحيفته عند الله عز وجل بهذا الذنب، فهذا هو الذي كان يؤرقهم ويؤلمهم، ولذلك قال قائلهم: [ إني لأرى أثر معصيتي في خلق دابتي، وامرأتي، وخادمي ]، فهم يرون أثر معاصيهم، وهذا كما قال الآخر: [ إن القوم قلت ذنوبهم؛ فعرفوا من أين أوتوا ].
    فالإنسان إذا لم يكن عليه دين إلا لفلان فإنه يقول: ما عندي دين إلا لفلان؛ فهو يعرفه، لكن إذا تدين من هذا، ومن هذا، ومن هذا؛ فإن الديون تخفى عليه، ولا يذكر كل أصحابها، ولا يبالي بها والعياذ بالله، وهكذا هنا من قلّت ذنوبه علم من أين أوتي.
  5. ترقي السلف الصالح في مقام الإحسان

    فهذا كان حال السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فهم بعين البصيرة يعيشون هذه المعاني التي نحن نقرؤها عبارات مجملة عامة، فإذا امتلأ القلب بذلك تحقق هذا المعنى، يقول الحافظ : هذا هو المقصود من قوله: كنت سمعه وبصره: أن يمتلئ قلبه بمحبتي، وإجلالي، وهيبتي، وعظمتي، والجوارح إنما تتحرك وتعمل بإرادة القلب، وبحركته لها.
    يقول: (فيصبح حاله كما قيل:
    ساكن في القلب يعمره            لست أنساه فأذكره
    غاب عن سمعي وعن بصري            فسويدا القلب يبصره
    فقوله:
    ساكن في القلب يعمره             لست أنساه فأذكره
    يعني: أن من بلغ تعلقه بمن يحب إلى هذه الحالة فإنه لا ينساه حتى يذكر به؛ لأنه دائم الذكر والاستحضار له، وهذا لا يليق إلا بالله عز وجل من عباده المؤمنين.
    يقول: (قال الفضيل بن عياض رحمه الله -الإمام العابد الزاهد-: [ إن الله تعالى يقول: كذب من ادعى محبتي، ونام عني ] )، فالله تعالى يقول: (( كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الذاريات:17-18]، فهؤلاء كانوا قانتين آناء الليل، وأطراف النهار.
    ويعلل الفضيل فيقول: ( [ أليس كل محب يحب خلوة محبوبه؟ ] )، وهذه قاعدة عند البشر: أن كل محب يريد أن يرى محبوبه، وأن يجلس معه، وأن يخلو به ولا يجلس معهم أحد؛ حتى يتحدث معه، ويناجيه، ويستمتع بمشاهدته.
    يقول الفضيل: ( [ هأنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غداً أقر أعينهم في جناني ] ).
    وقد أخذ الفضيل هذه الكلمات من قوله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17]، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء القوم كانوا يناجون الله تبارك وتعالى، ويتقربون إليه في جوف الليل، ويخلون في أوقات مع الله تعالى ولا يراهم أحد، فأخفوا عبادتهم وصلتهم ومناجاتهم لله تبارك وتعالى، فلذلك أخفى الله عز وجل جزاءهم أيضاً، وكأنه يقول أنتم تقولون: هذا يا رب بيننا وبينك لا يطلع عليه مخلوق؛ حتى كان بعض السلف لا تدري زوجته ولا جاريته عن عبادته، وعن ذكره، وعن استغفاره في السحر، ولا عن صدقته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ورجل تصدق بصدقة فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ).
    فهذا الذي يخفي ما بينه وبين الله كانت النتيجة والجزاء من جنس العمل، (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17] فيخفي الله عز وجل جزاءهم، ولم يقل: أعطيهم كذا وكذا، وإنما وعدهم وعداً عظيماً مجملاً؛ حتى تظل النفوس مشتاقة، فيقولون: نعلم أن في الجنة من الحور، وفيها من الذهب، وفيها من الفضة، وفيها أنهار من لبن، ومن عسل، فماذا أخفى الله لهؤلاء؟! فلا يدري ما ذلك، فهذه حاجة خاصة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وبين ربهم ووليهم الكريم المنان عز وجل؛ الذي يعطي كما يشاء سبحانه وتعالى.
  6. ترقي المقربين في درجات الإحسان، وانحدار العصاة في دركات الشيطان

    يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى) يعني: لا تزال المعرفة والإجلال والتعظيم لله عز وجل يقوى (حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم) حتى إن الإنسان منهم في منامه لا يحلم ولا يرى إلا الجنة، أو النار، أو قراءة القرآن، أو الذكر، أو الجهاد، أو العمل الصالح، فالجوارح أصبحت لا تستطيع أن تعمل إلا الخير.
    وفي المقابل نجد من أسود قلبه، وطبع عليه وغلف، وتملكه الهوى والشيطان، لا تستطيع جوارحه أن تنبعث في شيء من الخير، فقد يركض ويجري الساعات الطويلة في الشهوات، وإذا قلت له: تعال صل ركعتي الفجر، أو صلاة الظهر؛ وجدها ثقيلة جداً، ولا تستطيع جوارحه أن تنبعث وأن تنطلق لتعملها، ولا يستطيع أن يستمع إلى شيء من كلام الله؛ لأن القلب إذا امتلأ بشيء فإن الجوارح لا تستطيع أن تنبعث أو تتحرك بخلافه.
    فالمؤمنون الذين امتلأت قلوبهم بمحبة الله، ومعرفته، والأنس به؛ إن جاء جهاد انطلقت الجوارح، وإن كان ذكر لله عز وجل، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، أو ابتلاء في ذات الله؛ تحركت الجوارح، وصبرت وتحملت، وأما إذا كانت معصية فلا يستطيع أن يستمع إلى صوت فاجرة مغنية، ولا يستطيع أن يرى شيئاً مما حرم الله، ولا تستطيع يده أن تطاوعه كي يبطش بها، أو يضرب بها في غير موضع شرعي؛ لأن ذلك كله يرجع إلى القلب، ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فالقلب إذاً هو الذي يمتلئ بهذا أو بهذا.
  7. مذهب أهل الحلول والاتحاد في فهم قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به...)

    يقول: (ومن كان هذا حاله قيل فيه: ما بقى في قلبه إلا الله، والمراد: معرفته، ومحبته، وذكره) لا كما يفهم المجرمون الزنادقة الملاحدة من أهل الحلول والإتحاد: أن ذات الله -تعالى الله عن ذلك- حالة فيه، فهذا لا يفهمه أي عربي، والعجيب أن هذا دليل على فساد فطرهم، فالعرب في جاهليتهم وفي إسلامهم مقتضى لغتهم هو ما ذكرناه، ولا يفهمون غير ذلك، فإذا قالوا: ليس في قلب فلان إلا فلان أو فلانة؛ فلا يفهم أي عربي أن فلاناً بذاته داخل في قلب فلان أبداً، وإذا قيل: ليس في قلب المجنون إلا ليلى ؛ فمعناه: ليس هناك امرأة تعلق بها، وأحبها، وشغفته حباً إلا ليلى ، وليس أنها بذاتها قد دخلت في قلبه.
    فهذا يدل على فساد الفطرة عند هؤلاء، ويضاف إليه فساد اللغة، وفساد المعتقد، فكل ذلك اجتمع لديهم، نسأل الله العفو والعافية.
    ويقول: (وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور) وهو أثر مشهور على ألسنة العباد والصوفية وأمثالهم، وليس حديثاً قدسياً صحيحاً، وإنما مجرد كلمة مأثورة، فيقولون: (يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)، ولو صحت هذه الحكمة والعبارة فالمقصود بها: معرفتي وذكري.
  8. غيرة الله على عباده

    يقول: (وقال بعض العارفين) محذراً تلاميذه؛ ليكونوا من المقربين إلى الله: (احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده غيره )، أي: إن كنتم تدعون وتزعمون محبة الله حقاً فإنه غيور، ولا يريد أن يكون في قلب أحدكم محبة غيره، وليس معنى ذلك: أن الرجل لا يحب أباه، أو أمه، أو زوجته، أو أبناءه، ولكن المقصود: أن تكون كل محبة في قلبه تابعة لمحة الله عز وجل، فتحب الوالدين؛ لأن الله أمرك بمحبتهم، وتحب الأهل كذلك، وتحب إخوانك المسلمين في الله ولله.. وهكذا، فيكون القلب لا يحب إلا الله، أو من أمر الله تعالى بمحبته، أو من أحل الله تعالى محبته، فلا يكون في قلبه غير ذلك.
  9. خطر امتلاء القلب بمحبة غير الله

    فإذا كان يحب الله ويحب غير الله محبة تجعله يعصي الله عز وجل فهذه درجات، وأعظمها أن تحب غير الله المحبة الشركية، (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165]، فجعل لله نداً، كما قيل للنبي: ( أي الذنوب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً )، أي: في المحبة والتعظيم والإجلال، (( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]، فإذا كان الأمر كذلك فهذا هو الشرك الأكبر.
    أو دون ذلك: كأن يحب الرجل من يأمره، أو من لو أمره أن يعصي الله لأطاعه، وعصى الله؛ لأنه يحبه ولم يستطع أن يخالفه، فحتى لو أمرك والداك بذلك وهما أعظم البشر، وحقهما أعظم حق بعد حق الله عز وجل؛ فلا تطعهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، فإذا عصى الله عز وجل من أجل الوالد، أو الزوجة، أو الصديق، أو المدير، أو الرئيس، فإنه يكون قد وقع في نوع من هذا، وربما أفضى به فيما بعد -والعياذ بالله- إلى الوقوع في الشرك والندية.
    فبعض الناس يظن أن سعادته تكون من هذه المرأة، أو أن رزقه يكون من هذا الرئيس، أو المدير، أو المسئول، فلهذا يحب الله ويطيعه في أمور، ويطيع هذا أو هذه في أمور وإن خالفت أمر الله، وهذا غير صحيح، فكل شيء لله عز وجل، (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))[النجم:42] أي: منتهى كل شيء؛ فابحث عن أسباب الرزق فإنك تجدها تنتهي إلى الله عز وجل، فالتجارة من سخرها ودبرها؟ ومن أعطاكها؟ إنه الله، والوظيفة كذلك، والوالدان من سخرهما وجعلهما يرعيانك ويحبانك؟ إنه الله، وابحث في أي نعمة من النعم تجد أنها من سبب إلى سبب إلى سبب، وفي النهاية تجد الله عز وجل، فهو الذي بيده كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))[هود:56].
    وأما المخلوق فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك بعثاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يملك كشف الضر ولا تحويلا.
  10. تقديم محبة الله على كل محبة ومراده على كل مراد

    إذاً: يجب أن تقدم محبة الله تعالى على كل محبة، وتقدم مراده على كل مراد، فمن أمرك بأمر فيه معصية لله عز وجل فلا تطعه كائناً من كان، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
    يقول: (وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
    ليس للناس موضع في فؤادي            زاد فيه هواك حتى ملاه
    وقال آخر:
    قد صيغ قلبي على مقدار حبهم            فما لحب سواهم فيه متسع )
    يقول: (وإلى هذه المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة فقال: ( أحبوا الله من كل قلوبكم )، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في سيرته).
    والمقصود من هذه كلها: أن القلب لا يكون فيه شيء لغير الله، كما قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: [ أن تكون حركاته وسكناته لله عز وجل، لا يخالطه شيء، ولا يمازحه شيء ].
    إذا: فهذا هو معنى: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، فتصبح أعماله كلها لله، فإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، وإن أحب أحب لله إن أبغض أبغض لله، وإن نطق وتكلم فبذكر الله، وما والاه، وفي سبيل، وحتى إن نام: [إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي]، فيجعل حياته كلها لله، فهذه هي درجة المقربين أولياء الله تعالى.
    قال رحمه الله: (فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محى ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) ) ولذلك: جاء في بعض الروايات -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله-: ( فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش ) هو غير الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً-، وهو يسمع ويبصر؛ لكن بالله، ويبطش بالله، فيعمل لله، فالجوارح لا تتحرك إلا لله، وفي الله.
    قال: (ومن أشار إلى غير ذلك فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والإتحاد، والله ورسوله بريئان منه).
    يريد الحافظ ابن رجب رحمه الله أن يحذرنا ممن يقولون: إن قوله: ( كنت سمعه وبصره ) هو بمعنى الحلول، أي: -أن الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- يحل في المخلوقين؛ كما يدعي ذلك النصارى في المسيح، فيقولون: إن الله تعالى حل في المسيح عليه السلام، أو كما يدعي عباد الهند في الحلول والإتحاد لكل عابد من عبادهم، فيتعبد ويجتهد في تعذيب النفس حتى تتحد في براهما الإله عندهم كما يزعمون، تعالى الله عن ذلك، فهذا حلول واتحاد.
    وبين القولين -قول أهل السنة وفهمهم الذي أوضحناه، وبين الحلول والاتحاد- أقوال في تفسير هذا الكلام، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وسنأتي عليها إن شاء الله، ويمكن أن نقدمها قبل أن نبين لوازم ومتعلقات ذلك.
  11. مناسبة ذكر البخاري لحديث ناقة النبي العضباء تحت باب التواضع

    وهذا الحديث هو في صحيح البخاري في كتاب: الرقاق، باب: التواضع، وهذا يدل على فقه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا موجود في (ص340) من الطبعة السلفية، وذكر هناك حديثين: الحديث الأول: حديث ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء التي كانت لا تسبق، فجاءت ناقة الأعرابي وسبقتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن حقاً على الله ألا يرفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه )، فليس هنالك شيء من الدنيا إلا ويوضع بعد الارتفاع، وهكذا من اتسع ملكه وسلطانه حتى صار شيئاً عظيماً فإنه يضعف يوماً، وكذلك من كثر ماله حتى صار يرى أنه لا أغنى منه؛ فإنه يأتي عليه يوم من الأيام وإذا به لا شيء.. وهكذا.
    وقد مرت فترة من الفترات كانت فيها التجارة في العالم الإسلامي عرفت في دمشق ، و بغداد ، و القاهرة ، و قرطبة ، و تركيا تمثل (80 أو 70%) من التجارة العالمية، فأين هم الآن؟ وأين أموالهم وعقارهم وقصورهم؟ كله لا شيء.
    فالمهم: أي شيء من الدنيا سواء كان في القديم أو في الحديث فإنه يذهب، وقد فسر بعض العلماء -على وجه من القول- قوله تعالى: (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ))[القصص:88]: أن كل هذه الأمور هالكة إلا ما أريد به وجه الله، فهذه الدنيا كلها ذاهبة فانية زائلة، ولا يرفع الله شيئاً منها إلا وضعه.
    إذاً فمعنى ذلك يا من ارتفعت وتكبرت وتجبرت تواضع؛ فإنك لا بد أن توضع يوماً ما، فالآن مثلاً شباب ونشاط وقوة؛ ويأتي بعد ذلك الضعف والهوان، والآن عندك مثلاً الحافظة القوية والذاكرة والعلم؛ ويأتي وقت من الأوقات -لو رددت إلى أرذل العمر- قد تسأل عن الفاتحة فلا تستطيع أن تقرأها، وكثير من العلماء الكبار الأجلاء في آخر عمره أصبح لا يميز في الصلاة، ولا يميز قراءة الفاتحة، وهكذا الدنيا وهكذا حال الإنسان فيها.
  12. مناسبة ذكر حديث الولي تحت باب التواضع

    والحديث الثاني: هو حديث: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والمناسبة في ذكره في باب التواضع: أن أولياء الله هم المتواضعون، فلا يفهم أن الولاية صفة وسمة لأناس معينين، فعليك أن تتواضع لكل أحد من المؤمنين فلو عادينا أحداً منهم وقلنا: هذا مسكين ليس فيه خير، ولم نهتم به؛ فما يدريك أنه ولي من أولياء الله عز وجل؟ فربما أنه يدعو الله تعالى فيستجيب الله له، وقد يكون ممن لو أقسم على الله لأبره، وأنت تراه أشعث أغبر، ذي طمرين، إن خطب عندك لم تزوجه، وإن شفع عندك لم تشفعه.
    ولا نقول كما تقول الصوفية : إن أي فاسق فاجر نائم على مزبلة، إنه قد يكون ولياً، لكن الإنسان المقيم لفرائض الله، والذاكر لله، والعابد له؛ قد لا يشار إليه بالبنان، وقد يكون كما جاء في حديث الجبار: ( قال: هذا خير من مليء الأرض من مثل هذا )، فهذا الجبار تطقطق تحته البغال والبراذين، وإذا مر انتبهوا له، وقد يأتي إنسان آخر لا ينظر إليه ولا يؤبه له، وتقول -ولو بنوع من التكبر، ونوع من الشعور بالترفع-: إنك أفضل منه. إذاً فلازم ذلك أن نتواضع لكل عباد الله، وهذا هو المناسبة لباب التواضع.